الحرب والسلام وموقف المفكرين والكتّاب

 الحرب والسلام وموقف المفكرين والكتّاب

في شهر سبتمبر 1914م، أي بعد شهر واحد تقريباً من اشتعال الحرب العالمية الأولى، كتب هرمان هيسه، المفكر السويسري، الألماني الأصل، مقالاً تناول فيه موضوع الحرب والسلام، وتطرق إلى موقف المفكرين والكتاب، الذين سرعان ما تخندقوا في خنادق الحرب المتجابهة، واستخدموا عقولهم وأقلامهم استخداماً أسهم في زرع الأحقاد والكراهية بين الشعوب، وزاد من حدة التعصب، الذي وصل ببعضهم إلى أن يغير نظرته إلى ما أسهمت به شعوب الدول المعادية لبلده في مسيرة الحضارة البشرية، وفي مختلف جوانب الإبداع الفكري والفني والأدبي، وتعالت أصوات من بين صفوف المفكرين والكتاب، مشحونة لا بالعداء لأعداء الوطن، وهذا أمر طبيعي، يصدر عن المشاعر الوطنية، بل بالعداء للتراث الإنساني، بمختلف صوره، مادام ينتمي إلى هذه الدولة أو تلك، من الدول المعادي. وهذا ما يحدث اليوم، بعد مرور أكثر من قرن على مقال هيسه، في مقاطعة وتشويه ما أبدعه المفكرون والكتاب والروائيون والشعراء والموسيقيون والنحاتون والرسامون الروس من تراث انتفعت به الإنسانية وتتلمذت عليه ملايين العقول في مختلف بقاع العالم، بما فيها العقول الأوربية والأمريكية.  

وقفت أمام فقرات بعينها، مما كتبه هرمان هيسه، وقارنت بين ما سجله قلمه قبل أكثر من قرن من الزمان، عن موقف المفكرين والكتاب، وبين ما نشهده اليوم. فوجدت أن الحالتين متشابهتان إلى حد بعيد. وهذا لا يعني التسليم بما نردده أحياناً من عبارات لا صحة لها عند التدقيق، مثل (التاريخ يعيد نفسه) و (محكمة التاريخ) و (حكم التاريخ العادل). فهي عبارات جميلة، لكن حظها من الصحة قليل. فالتاريخ لا يعيد نفسه ولا تتطابق أحداثه أبداً. قد تتشابه بعض أحداثه في إطارها واتجاهها العام وفي ما تنطوي عليه من دوافع وغرائز وطموحات وأوهام، لكنها تتباين في تفاصيلها. إن مسار التاريخ أشبه بمجرى النهر، فأنت لا تخوض في النهر مرتين، كما قال قديماً الفيلسوف اليوناني هيرقليطس، ففي المرة الثانية تكون هناك مياه أخرى، غير التي خضت فيها في المرة الأولى. والتاريخ ليست لديه محكمة، وليس عادلاً في معظم ما نقرأه في صفحاته ومدوناته. فالمنتصرون هم غالباً من يكتبونه. فيعمدون إلى تشويه تاريخ المهزومين ورموزهم وأبطالهم ومواقفهم وآرائهم ومعتقداتهم، ويسبغون على أنفسهم صفات الخير والحق، ويضعون أعداءهم في محور الشر والباطل، ولا يتورعون عن تزوير الوقائع وقلب الحقائق لتأكيد صحة مواقفهم وعدالة قضاياهم. والأمثلة كثيرة على ذلك، سواءً في كتب التاريخ الغربية والشرقية، أو في كتب التاريخ العربية والإسلامية، أو في ما كُتب ونشر وقيل، في التاريخ المعاصر. ومع ذلك فالتشابه كبير بين الموقفين، بين موقف المفكرين والكتاب الذين انتقدهم هرمان هيسه في ذلك الزمان (في بداية الحرب العالمية الأولى)، بين موقفهم من التراث الفكري والفني والأدبي الروسي الرائع، وبين الموقف الراهن لأمثالهم. وهو تشابه في النوازع النفسية والميول الفكرية والنظر إلى الأحداث والموقف منها، رغم ما في الأحداث ذاتها من تباين، في أسبابها وأطرافها ووقائعها ومساراتها.

ولنقرأ فقرات مما كتبه هيسه عن هذا الجانب، في كتابه (إذا ما استمرت الحرب، ص 12 _ 13، ترجمة أسامة منزلجي، دار نينوى، دمشق، 2001م):

"مؤخراً ذهلنا بظهور دلائل حدوث فوضى هدّامة ..... فبراءات اختراع ألمانية تُعَلَّق في روسيا، وموسيقى ألمانية يُحظر سماعها في فرنسا، ويُحظر تداول المنتجات الثقافية لدول معادية في ألمانيا. وتُقرِّر كثير من الصحف الألمانية أن تكفَّ عن نشر أي ترجمة أو نقد، أو حتى أن تأتي على ذكر أعمال لمؤلفين إنكليز أو فرنسيين أو روس أو يابانيين. وهذه ليست إشاعة، بل قرار حقيقي بُدئ بتطبيقه فعلاً".

"إن الآخرين يساهمون في الأحداث الجليلة بحمل الحرب إلى غرف مكاتبهم وتأليف أغان تحثُّ على شن حرب وحشية، أو مقالات مفرطة التطرف تشعل الأحقاد بين الأمم، ولعل هذا هو أسوأ الأمور قاطبة. إن الرجال الذين يجازفون بحياتهم في كل يوم على الجبهة قد يكونون فريسة الإحساس بالمرارة ونوبات خاطفة من الغضب والحقد. الأمر نفسه يصح على السياسيين الفاعلين. ولكن هل وظيفتنا نحن، الكتاب والفنانون والصحافيون، أن نزيد الطين بلة؟ أليس الوضع أصلاً غارقاً بما يكفي من البشاعة ويرثى له؟".

"إن هذه المظاهر كلها بدءاً (بالإشاعة) المختلقة بدون أي وازع ضمير، وحتى المقالة الملتهبة بالحماس، من حظر تداول فن (العدو) وحتى الحط من قدر الأمم كافة، تنجم عن الفشل في التفكير، في الكسل العقلي الذي له ما يبرره تماماً عند جندي على خط النار، لكنه لا يليق أبداً بكاتب مفكر أو فنان".  

انتهت الفقرات المنقولة من مقال هرمان هيسه. وهي لا تحتاج إلى تعليق، بقدر ما تحتاج إلى لحظة تأمل وتفكير عميقين، في الدور الذي يجب أن يضطلع به المثقف والمفكر في أوقات الحروب، لمواجهة مآسيها وشرورها، لا في تأجيج نيرانها، لا سيما الحروب الداخلية منها، التي تطحن أبناء الوطن الواحد بين رحاها، وتُفقد كثيرين من الكتاب الطيبين توازنهم وتدفع بهم إلى التخندق في هذا الخندق أو ذاك، من الخنادق المتجابهة. بدلاً من أن ينتصروا للسلام وقيمه، ويقاوموا الحرب وشرورها _ لاسيما الحرب الداخلية، العبثية بطبيعتها، التي يحركها التعطش إلى السلطة والاستئثار بها وبمغرياتها المادية والمعنوية _ ويتصدروا الدعوة إلى التصالح والتعايش بين أبناء الشعب الواحد، ويؤسسوا بأفكارهم وأقلامهم لبناء الوطن، الذي لا يمكن أن يُبنى إلا بسواعد أبنائه جميعهم، ولا يمكن أن يتطور إلا بدفن مشاعر الحقد والكراهية المتبادلة بينهم وإشاعة روح المحبة والتآلف والتسامح، على قاعدة الحق والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص، في ظل دولة لا يتميز فيها أبناءُ منطقة أو أسرة أو جماعة أو طائفة أو سلالة عن سواهم من خلق الله، ولا يحتكر السلطة والثروة فيها قلة من الناس ويُحرم منها الشعب بكامله. دولة قائمة على الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات. دولة حلمنا وما نزال نحلم بها، ولكننا نعمل يومياً على تدمير شروط وجودها، بجهلنا وحماقاتنا وادعاءاتنا وانسياقنا جميعاً وراء مشاريع خارجية مدمره، وبتحويل أنفسنا إلى أوراق بيد القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، تستخدمها في مساوماتها وتسوياتها، وبنزوع كل منا إلى إلغاء الآخر والاستئثار بكل شيء، وكأنما خُلقت الدنيا له وحده.