دور عمان في هدنة اليمن.. ليس صدفة أو وليد اليوم

 دور عمان في هدنة اليمن.. ليس صدفة أو وليد اليوم

إشارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الدور القيادي لسلطنة عمان في التوصل إلى هدنة في الحرب اليمنية المأساوية هو تلخيص لموقف استراتيجي كامل لمسقط من النزاع في اليمن، لكن الأكثر إنه تلخيص لتموضع جيوسياسي دائم ومرن لسياستها الخارجية على مدى نصف قرن سواء في الإقليم المباشر «الخليج وشبه الجزيرة العربية» أو في عموم الإقليم العربي والشرق أوسطي.

أولا: تلخيص لموقف استراتيجي من النزاع في اليمن:

1- لم تكن عمان قادرة على لعب هذا الدور الإيجابي في إنجاز الهدنة والدفع باتجاه أن تتحول لعملية سلام شاملة لو كانت طرفا في الصراع بأي صورة من الصور. فرفضها المطلق لأي حل عسكري في اليمن وعدم انضمامها إلى التحالف العربي جعلها الشريك الإقليمي الأكثر موثوقية ونزاهة بين الأطراف المتحاربة من ناحية ومن القوى الدولية والإقليمية الأساسية (الولايات المتحدة وروسيا وإيران) وهي القوى التي لها قدرة على التأثير على هذه الأطراف من ناحية أخرى.

2- في الوقت الذي أمنت فيه عضوية عمان في مجلس التعاون الخليجي قنوات الاتصال مع الأطراف الخليجية العربية المنخرطة في الصراع العسكري في اليمن فإنها حافظت على علاقات وزيارات منتظمة وصريحة مع صنعاء والقوى الحوثية المسيطرة عليها بل ومع مجمل المكون اليمني الجنوبي/ الشمالي بتنوعه القبلي/ والمناطقي من المهرة إلى الحديدة ومن صنعاء إلى عدن، وقد راكم هذا ثقة متزايدة في عُمان بوصفها وسيطا نزيها ومحايدا، هي نفسها كونها جارا مباشرا لليمن لها مصالح أمنية ووطنية مشروعة وحقيقية في وقف الحرب وعودة الاستقرار إلى جارها اليمني وعودة الاستقرار إلى شبه الجزيرة ككل.

3- لم تكن عمان طرفا في أي سلوك يؤدي إلى تشجيع الحل العسكري في اليمن ونأت بنفسها عن كل ضروب التورط فيه بما في ذلك الامتناع عن الانحياز لطرف دون الآخر والامتناع عن تبني (سردية) كل منهما للنزاع، وبينما كان البعض يصف (الحوثيين) بأنهم وكلاء لإيران لهز الاستقرار في المنطقة وتوسيع نفوذ طهران وكان البعض الآخر يصف أطرافا في التحالف بالتدخل العسكري لوجود مصالح في جزر ومناطق يمنية كانت مسقط تدعو الجميع إلى الحوار وتقوم باتصالات مكوكية في كثير من الأوقات. وكان الأداء الإعلامي العماني منضبطا وغير منحاز وبعيدا عن إثارة أي قضايا من شأنها زيادة أوار الحرب.

ثانيا التموضع الاستراتيجي الدائم

1- لم تحذُ عمان حذو كثير من زميلاتها الخليجيات والعربيات في اتباع نهج الصراع مع إيران وحافظت مسقط على نهج سلمي وحوار صريح ومتكافئ مع الإيرانيين في أيام الشاه كما في أيام الجمهورية الإسلامية، ومكن ذلك مسقط من أن تكون جسر التفاهم الوحيد للعبور بين ضفتي الخليج في أكثر الأوقات التي كان يعز فيها التفاهم. هنا في هذا البلد (وفي عام 1991) وبوساطته تمت إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران التي كانت قد قطعت 1987. كما جرت فيها قبل فترة ليست بالبعيدة جولات الحوار الأولي الرامية لتخفيف التوتر بين البلدين نفسيهما بعد قطع العلاقات مجددا عام 2016.

كما كانت عمان هي الطرف الموثوق في نزاهته وحنكته وكفاءة جهازه السياسي والدبلوماسي في العمل كوسيط أو ميسر للحوار بين الولايات المتحدة والقوى الغربية وبين إيران كقوة إقليمية. وبدور عماني بارز أيضا حدث الاختراق الرئيسي في عهد (أوباما) بالتوقيع على ما يعرف إعلاميا بالاتفاق النووي مع طهران، وبدور عماني أيضا استرجعت المفاوضات الرامية لإحيائه من جديد في عهد (بايدن) بعد ما كان قد ألغي على يد (ترامب) الشعبوي المندفع.

2- رفضت عمان باستمرار وبشكل لا مساومة عليه التدخل في شؤون الدول الأخرى كما طالبت هذه الدول بعدم التدخل في شؤونها وكان التحدي الأكبر لامتحان هذا المبدأ هو رفض عمان الانخراط في أدوار إقليمية طموحة أو متجاوزة في مرحلة ما عرف بالربيع العربي وامتنعت بحزم عن إغراء وشهوة التدخل في شؤون الدول الخليجية والعربية الأخرى في هذه المرحلة التي اتسمت بالسيولة السياسية وحافظت على فكرة احترام الدولة الوطنية. لهذا لم تكن مسقط فقط هي الطرف الخليجي الذي امتنع عن التدخل فيما أصبح لاحقا كوارث وعمليات إرهابية ومآسي سياسية وإنسانية وأمنية في سوريا وليبيا ولكن باتت أيضا الطرف الخليجي القادر على المشاركة في العمليات الرامية لاستعادة بلد كبير مثل سوريا إلى الجامعة العربية.

3- مع الالتزام الصارم بإطار السياسة الخارجية التي وضع قواعدها السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- مؤسس الدولة الحديثة منذ 23 يوليو 1970 فإن (الديناميكية الجديدة) التي حملها وصول صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- وتجديده لشباب الدبلوماسية العمانية وقيادتها، إنما دعت الدول المنخرطة في النزاع اليمني بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر سواء من أهل المنطقة أو من القوى الخارجية إلى السعي بجد هذه المرة لتجريب الخبرة العمانية المتراكمة في حل النزاعات السابقة في جهد صادق لتهدئة الحرب اليمنية وفتح مسار التسوية السياسية. بعبارة أخرى فإن هذه الديناميكية الجديدة تفاعلت من حيث التوقيت مع تطور مهم هو ازدياد اعتقاد الطرفين الرئيسيين المتحاربين بأن الحرب لا يمكن كسبها- خاصة مع تزايد خطر المسيرات الحوثية على الرياض وأبو ظبي وشدة وفعالية الغارات الجوية للتحالف على الحوثيين - وأنها باتت استنزافا هائلا للجميع بدون تحقق مكسب استراتيجي أو سياسي. هنا توافر قدر أكبر من الإرادة السياسية لديهما لإعطاء مسقط (والأمم المتحدة وأطرافا أخرى) فرصة حقيقة لاختبار مقولة عُمان المستمرة منذ 2016 دعونا نجرب الحلول السياسية ودعونا ننقذ شعب أقدم حضارة في الجزيرة العربية من الموت والجوع والأوبئة.

دعونا بعد تثبيت الهدنة نتحرك إلى تسوية سلمية دائمة وشاملة لجذور الصراع مع وعلى اليمن تأخذ في الاعتبار ما أثبتته هذه الحرب من حقيقة أنه لا أمن للمنطقة دون يمن مستقر ومزدهر، وبث الحياة في أفكار قديمة تعثرت في السابق مثل اندماج اليمن في هياكل التعاون الاقتصادي في الجزيرة العربية بما يسمح بحرية انتقال العمالة ورؤوس الأموال والتجارة اليمنية من وإلى دول مجلس التعاون الخليجي.