طلال سلمان كلبنان ضحيّة الخذلان

طلال سلمان كلبنان ضحيّة الخذلان

  كان رحيلُه مُنتظرًا منذ اشتدّ المرضُ عليه، وكنّا نحن الذين عشنا في كنفه ومعه لأكثر من ربع قرن، ننتظرُ معجزةً طبيّة، أو رحمةً إلهيّةً، تُبقيه على قيد الحياة. كنّا أنانيّين في انتظارِنا، تمامًا كأنانيّتنا في غضبِنا وحزننا، حين أقفل صحيفتنا ” السفير” في ذاك اليوم الحزين من العام 2017.

كنّا نصفُها ب ” صحيفتِنا”، وليس في الوصف مغالاة. فهي كانت بيتَنا، وانتماءَنا، وخيمةَ عروبتِنا، وهو كان هُناك في الطابق السادس، أميرَ الكلمةِ، عاشقَ المعلومةِ، يُغدِقُ علينا محبّتَه بلا حساب، يُعامِلُنا كأفراد عائلتِه، ويأخذُنُا في حُلمِنا العربيّ إلى ذكرياته، وما أكثرَها وما أجملَها.

كُنّا نستمع إليه، دون مقاطعةٍ، ففي رواياته، أسرارٌ كثيرة، وعروبة غزيرة، وفيها من جميل الرواية، وطرفة الراوي، وصدق الرواية، ما يجعلك تجالسُه ساعاتٍ طويلة، وتريد المزيد.

يحدثنا بشَغَفِ المُحبّ عن الجزائر بعد ثورتها المجيدة، كيف حضر أول اجتماع لبرلمانها وكان النقاش حول شراء بزّة لرئيس البلاد أحمد بن بلّة. ذلك انَّ الشرفاء ما كانوا يملكون شيئًا غير الكرامة وعزّة النفس وشجاعة نادرة لتحرير البلاد. يحكي عن لقاءاته الاولى في مصر العروبة من جمال عبد الناصر إلى محمّد حسنين هيكل إلى معظم مثقّفي قاهرة المعزّ، وعن سهرات الشعر والأدب والفنّ والنضال. ثم نتوقّف عند حصار بيروت والتآخي مع القادة الفلسطينيين، والحوارات الطويلة مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في كلّ حالاته، ومع قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط، الذي تعرّف على بذور فكره حين كان يدرس على مقاعد مدارس  قريتّه “المختارة” حيث كان والده رئيسًا لمخفرها. لعلّ ذاك الترحال الدائم من منطقة لُبنانيّة إلى أخرى برفقة والده العسكريّ، زرع في قلب ووجدان وعقل طلال سلمان رحيق المدنيّة والعلمانيّة، لا عقم الطائفيّة ونفاياتها.

كنا في جلساتنا معه، نستعيد رسمَ معالم نضال جريدة “السفير” ضدَّ المحتلّ الإسرائيليّ أثناء غزو بيروت، وعن تعرّضه هو نفسه لمحاولة اغتيال كادت تودي بحياته وهشّمت نصف وجهه وجسده. كان يعرف تمامًا مَن حاول قتله ولماذا. رواها لنا بالتفّصيل، حتّى ولو أنّه تجنّب كشفَ تفاصيل السرّ درءًا لمزيدٍ من الدماء والبغضاء.  

ثم نذهب الى اليمن وأهله الطيبين نستعيد خصوصا روايات الجنوب الاشتراكيّ وإعجابه به مع حرصه العميق على الوحدة هناك وفي أي قطر عربيّ، ونعرّج على سوريا، فيطول الحديث عن الحوارات واللقاءات مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، ثم  يحكي لنا لقاءاته الكثيرة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري أو مع امين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، وعن العراق الجريح، وليبيا والسودان، وصولا الى آخر شبر من هذا الوطن العربي الكبير الذي عرفه عن قرب وعَشِقَه عن قناعة.

وبعد أقداح اليانسون، والزهورات والقهوة وغيرها، غالبًا ما تُختتم الجلسة باقتراحِ عشاءٍ وسماع موسيقى، فينتشي ويرندح ويصفق كطفلٍ.

بقيَ طلال سلمان حتّى الرمق الأخير يكتب بالقلم لا على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. لعلّه في طقسِه هذا، كان يُريد التمسّك بتلك المرحلة الزاهية من الكتابة والصحافة والسياسة والعروبة والقوميّة والناصريّة.  يمسك القلم بين إبهامه المُدبب وسبّابته، فيختزل الحدث، مهما كان مُعقّدًا، بافتتاحيتِه التي تحوّلت منذ سبعينيات القرن الماضي، إلى رفيقةِ صباحِ السياسيّين والمثقّفين والإعلاميّين ورجال الفكر والناس العاديّين.

عاقرةٌ هي اللغةُ حين تبتغي الإحاطة بكلّ طلال سلمان الذي اتقن الوطن العربيّ من محيطه إلى الخليج، ومن المشرق الى المغرب تماما كما كان يُضحِكنا بتقليد بعض لهجاته او برواية بعض طرائف ما عايشه وشاهده.

شهيد الخذلان

منذ إعلان رحيله المؤلم، انتشرت المقالات عن طلال سلمان كالنار في الهشيم، لكن كلّ ما كُتب وسيُكتب عنه، يبقى على الأرجح قاصرًا عن تقديم بورتريه شاملة عن الرجل العروبيّ حتّى النخاع، المحبّ للحياة حتّى الوجع، العاشق للمهنة حتّى استقرّت في الخلايا.

 قال الكثير في حياته، وحجب الأكثر، إمّا من منطلق أمانات المجالس، أو لأنّ بعض الأسرار قد تُفجّر براكين.

 لكن لطلال سلمان قصّة ً أخرى قد يرويها أحدُ القلّة القليلة التي بقيت تزوره بعد اقفال ” السفير”، وحبّذا لو أن زميلنا الوفيّ حسين أيوب الذي كان أفضلنا جميعًا في الإصرار على زيارته على نحو شبه يومي أو اسبوعي، يكتب بعضًا من طلال سلمان الأخير، لا طلال سلمان المتدفّق حيوية وعروبة وعشقًا للحياة والمهنة.

طلال سلمان الأخير، كان يُغالب الخذلان باجتراح ابتسامةٍ صعبة، كلّما جالسناه في سنوات وحدته ومرضه. فلُبنان الحالي ما عاد لُبنانَه، والعروبة الراهنة ما عادت عروبَتَه، والصحافة الحالية ليست صحافَتَه، واليسارُ الحالي ما عاد يسارَه، والناس تغيّروا من حوله الاّ ما ندر.

كنّا نُلحّ عليه لكتابة مذكّراتِه ونشرها على حلقات، فيبتسم ويقول ” سأفعل، لكنّها مسؤوليةٌ كبيرة”، ولحسن الحظ أن زميلتنا مهى زراقط سجّلت حلقات طويلة معه، ولا شكّ في أنها ستُخرجها بحلقات وكتابٍ يليقان بقامة الرجل وتاريخه وعروبته وأصالته وعطائه.

وحين نسأله عن سبب عدم الكتابة عن لُبنان والواقع العربي، كان يرد بسؤال يختزل كل المرارة والخذلان:” عمّ أكتب؟” ليس لأن الحرائق العربية كانت تنتشر في أكثر من مكان في الجسد العربيّ فحسب، وإنّما لأنَّ طلال سلمان عرف معظم الساسة،  وعلّم أغلَبَهم تفاصيل الجغرافيا السياسيّة ودهاليزها، ولعلّه في قرارة نفسه كان يحتقر الكثير من الطارئين على السياسة والحكم، ويرى فيهم تجسيدًا لذروة الفساد والبلاهة وانعدام الكرامة الاّ ما ندر.

لطلال سلمان في وجداني وذاكرتي وقلبي مكانُ كبير. وله في تاريخي المهني فضلُ الأولوية، فمع جريدة” السفير” عرفتُ أولى أسرار مهنة الصحافة المكتوبة، ومن على صفحاتها تعرّفت على البعد العروبي الحقيقي، وعلى صفحاتها أيضا نشرت أهم تحقيقاتي التي قادتني إلى دول العالم قاطبة، فسرت على الدرب نفسه الذي سار عليه قبلي طلال سلمان، وتعلّمت منه الكثير.

في آخر زيارة لي إلى مكتبه، رحتُ أنظرُ إلى ما بقي من لوحاتٍ تُزيّن الحيطان التي حفظت أسرار نصف قرنٍ من السياسة، فأرى رسوم ناجي العلي تختصر همومَ فلسطين وقبضاتِ أبطالِها، ولوحات للبنان القديم، وعلى الطاولة أمامه آخر الروايات والشعر والأدب والسياسة، ومقبضٌ رياضي لتمرين كفّه، ومقالٌ لم يكتمل بعد، كان يستعدّ لنشره على موقع ” السفير” بعد أن أقفلت هذه الجريدة العربية العريقة أبوابها لضيق الحال وخذلان العروبة.

لجأ طلال سلمان في سنواته الأخيرة، إلى تأجير كلّ طوابق مبنى “السفير” ، وكنّا كلما زرناه، نشعرُ بانتهاء حُلم، وبمرارةٍ قلّ نظيرُها، وكنّا نصدّق بأنَه ليس من النوع الذي يموت، فهو بقيَ حتّى الرمق الأخير، يبتسم فوق الخذلان، يبتسم نصف ابتسامة، إمّا بسبب آثار جريمة اغتياله التي اخترقت خدّيه وفمه، أو بسبب جريمة الخذلان التي لا شكّ في أنّها سرّعت بالرحيل.

رحمك الله يا أباد أحمد، فمع رحيلِك نُقفلُ صفحةً من حُلُمٍ جميل. وستبقى انت و” السفير” ايقونة الإعلام والعروبة في وطننا العربيّ الكبير.