تحاول الولايات المتحدة أن تفعل المستحيل وهو احتواء قوتين عظمتين في نفس الوقت، وقد فشلت فيما هو أسهل، فقد حاولت احتواء كل من إيران والعراق لمدة 3 عقود، ولم تنته أي من الحالتين بشكل جيد، فإيران لم يتم احتواؤها، أما العراق فقد تم تغيير النظام لكن الدولة نفسها ضاعت.
وحاليا، في الوقت الذي تعد فيه الولايات المتحدة في أضعف حالاتها على الصعيد الخارجي وأكثر حالاتها استقطابًا على الصعيد الداخلي، فإنها تتطلع لطموحات أكبر من أي وقت سبق، حيث تهدف إلى احتواء كل من روسيا والصين.
ولخص "هنري كيسنجر" مؤخرًا مدى خطورة هذا الأمر قائلًا: "نحن على حافة الحرب مع روسيا والصين نتيجة قضايا نحن السبب فيها جزئيًا، ولا يوجد أي فهم لكيفية إدارة ذلك أو التداعيات المحتملة".
ومع الحرب في أوكرانيا والتوترات المتزايدة حول تايوان، نشأت تداعيات خطيرة تتمثل في أزمات الطاقة والغذاء العالمية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، واضطرابات سلسلة التوريد، والتوترات التجارية والسباق التكنولوجي، وكلها مصحوبة بالركود والتضخم الذي يلوح في الأفق.
وتوجه الولايات المتحدة اتهامات لكل من موسكو وبكين بزعزعة النظام العالمي القائم على القواعد. ومع ذلك، فإن الأدلة ليست مقنعة. وقد تؤدي هذه المواجهة إلى إعادة اصطفاف عالمي، مما سينتج من الناحية المثالية نظامًا متعدد الأقطاب، ولكن الأرجح أنه سيكون نظامًا ثلاثي الأقطاب.
القطب الأول هو الكتلة الديمقراطية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة (والتي يجسدها ثلاثي دول G7 والناتو والاتحاد الأوروبي)، والثاني هو الكتلة الأوراسية بقيادة الصين وروسيا، إلى جانب إيران وبعض جمهوريات آسيا الوسطى.
وتتضمن الكتلة الثالثة أولئك الذين يريدون الابتعاد عن كليهما، أي بقية العالم الذي يُطلق عليه الآن الجنوب العالمي، وسوف تبقى هذه الدول على الحياد فيما تتصارع الديمقراطية مع الاستبدادية في الحرب الباردة الثانية.
معركة على القلوب والعقول
يحاول الجنوب العالمي التخلص من عقود من الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية الغربية. ولا يعني هذا اصطفافًا تلقائيًا مع الكتلة الأوراسية، لكنه يشير بالتأكيد إلى نظام دولي أكثر سيولة. وكما تشير حرب أوكرانيا، فإن نداء الغرب لحشد العالم ضد روسيا لم يكن جذابًا، وستكون المواجهة القادمة ضد الصين أقل جاذبية.
ويكافح الثالوث الغربي لكسب القلوب والعقول في الجنوب العالمي، لكن معاييرهم المزدوجة والنظام العالمي القائم على القواعد الملتوية هي أمور أكثر إزعاجا من الفظائع الروسية في أوكرانيا أو استعراض الصين لقوتها على طول حدودها.
حتى الآن، تبدو الأطر السياسية غير الغربية مثل "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) و"منظمة شنغهاي للتعاون" أكثر جاذبية. ولا تكسب الديمقراطيات الغربية في معسكرها سوى الدول ذات التفكير المماثل، كما يتضح من انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو.
أما اللاعبون الإقليميون الآخرون - بما في ذلك تركيا والجزائر ومصر والسعودية والإمارات والأرجنتين والمكسيك - فهم يبحثون في أماكن أخرى.
وقال دبلوماسي بريطاني رفيع ذات مرة: "أن تكون صديقًا للولايات المتحدة أصعب بكثير من أن تكون عدوا لها". وهكذا، يمكن أن تظهر كتلتان اقتصاديتان وتجاريتان متنافستان؛ وربما لم تعد نيويورك ولندن والدولار الأمريكي هي المقرات والأدوات الحصرية للنظام المالي العالمي.
وتعمل الصين وروسيا على إيجاد بدائل للدولار الأمريكي ونظام الدفع العالمي "سويفت" وبورصتي نيويورك ولندن. وتقوم الشركات الصينية المملوكة للدولة بشطب إدراجها في البورصات الأمريكية، بينما تقوم بكين بتخفيض سندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها.
وبينما لا تزال هذه التحركات في بداياتها، إلا أنها قد تصبح جذابة للعديد من دول الجنوب العالمي بمرور الوقت، خاصة إذا كان الغرب يثابر بحماقة على استخدام الدولار وأدواته المالية كسلاح.
يمكن أن تبدأ المزيد من الدول أيضًا في البحث عن أماكن أكثر أمانًا لاحتياطياتها من الذهب والعملات الصعبة، خاصة بعد استيلاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على الاحتياطيات الوطنية الأفغانية والفنزويلية، ناهيك عن استيلاء الدول الغربية على 300 مليار دولار من روسيا.
التحولات التكتونية
يمكن لانفصال روسيا عن الغرب اقتصاديا، وانفصال الصين القادم، أن يقدم مشهدًا مختلفًا تمامًا. فكيف سيتعامل الشرق الأوسط مع هذه التحولات التكتونية؟
بالنظر إلى اتفاقات إبراهام التي تطلبت الكثير من الضغط على الأطراف لتحقيقها، أصبحت "باكس أمريكانا" بعيدة المنال أكثر فأكثر (مصطلح لاتيني يعني السلام الأمريكي ويشير إلى دور النفوذ الأمريكي الذي ساد من بعد الحرب العالمية الثانية في فرض الاستقرار).
وتعد هذه الصفقات، التي روجت لها إدارة "ترامب" ورحب بها "بايدن"، مهمة اقتصاديًا لا سيما بالنسبة لإسرائيل، لكنها تستند إلى افتراضين: أن القضية الفلسطينية يمكن تنحيتها جانباً إلى أجل غير مسمى دون عواقب، وأن الرأي العام في العالم العربي غير ذي صلة.
سيحين قريبًا وقت اتخاذ القرار بالنسبة للقوى الإقليمية الكبرى. فهل ستسمح المنطقة لنفسها مرة أخرى أن تصبح ساحة معركة للقوى العظمى، كما كانت خلال القرن العشرين؟ وما هو القالب السياسي الذي يمكن بناء الاستقرار الإقليمي حوله؟ اتفاقات إبراهام موسعة (والتي توسطت فيها الولايات المتحدة)؛ أم تفاهمات غير رسمية معادية للغرب مثل محور المقاومة (إيران-العراق وسوريا-حزب الله)؛ أو التكتلات غير الغربية مثل "بريكس بلس" و"منظمة شنغهاي للتعاون"؟
وهل سيميل الإطار الاقتصادي في المنطقة أكثر نحو مبادرة الحزام والطريق الصينية، أم شراكة "G7" التي تم الإعلان عنها حديثًا وتتعلق بمشاريع للبنية التحتية والاستثمار العالمي بقيمة 600 مليار دولار؟ وهل ستستمر المؤسسات المالية في الاعتماد على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي يسيطر عليه الولايات المتحدة، أم أنها ستجد بديلاً في "بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية" في الصين؟
الأدلة الوحيدة المتاحة حتى الآن هي أن شركاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، مثل مصر والسعودية، يفكرون في الانضمام إلى "بريكس". وكانت الرياض تدرس قبول اليوان بدلاً من الدولار لمبيعات النفط، ومن المتوقع أن يزور الرئيس الصيني "شي جين بينغ" السعودية قريبًا.
السياسات الواقعية تفوز
بالرغم من تطورات المشهد العالمي، فإن المخطط الأمريكي للشرق الأوسط لم يتغير للأسف، ولم تكن رحلة "بايدن" الأخيرة إلى إسرائيل وفلسطين والسعودية استثناءً، فقد أمّنت إسرائيل شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة تهدف بشكل أساسي إلى مواجهة إيران، في حين واجه الفلسطينيون المزيد من التجاهل لحقوقهم المشروعة.
لكن أهم محطة لـ"بايدن" كانت في السعودية التي وعد "بايدن" سابقا بتحويلها إلى دولة "منبوذة" بسبب مقتل الصحفي "جمال خاشقجي"، وقد أكدت هذه التطورات صعوبة اتباع سياسة خارجية قائمة حصرا على المبادئ والقيم الأخلاقية.
وأثبت الشرق الأوسط انهيار سردية "بايدن" الكبيرة عن الصراع العالمي بين الديمقراطية والاستبداد. لقد فرضت السياسة الواقعية نفسها، وواجه الرئيس الأمريكي معضلة صعبة: التمسك بقيمه الأخلاقية المزعومة، والتي تتطلب أن يظل الرجل الذي أمر بقتل "خاشقجي" منبوذًا دوليًا، أو إعطاء الأولوية للمستهلكين الأمريكيين ومحاولة خفض أسعار النفط.
ولم يكن مفاجئا أن يختار "بايدن" الخيار الثاني، فالتضخم المتصاعد تسبب في تآكل كل من القوة الشرائية للمستهلك الأمريكي وفرص الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر/تشرين الثاني، وأسرع حل لذلك هو إغراق سوق النفط بالخام.
وأصبح من الواضح الآن أنه رغم المذلة التي تكبدها "بايدن" بلقائه مع ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، إلا أن الرياض لم تلتزم بأي زيادة في إنتاج النفط، قائلة إن قدرتها الاحتياطية قريبة من الحد الأقصى. باختصار، كانت الزيارة كارثة سياسية.
أما قمة إيران وروسيا وتركيا التي حدثت في نفس الوقت تقريبًا في طهران فربما يكون لها آثار أكثر أهمية واستدامة على المنطقة. وفي حين أن الولايات المتحدة لا تزال حبيسة قواعد لعب عفا عليها الزمن فيما فقد الاتحاد الأوروبي أهميته، يمكن أن يكون لدى روسيا والصين مساحة أكبر للمناورة.
وبالرغم من محاولات الغرب لترتيب النظام الدولي على نظام يقوم على "نحن وهم" فإن الواقع الناشئ أكثر تعقيدًا، حيث تتطلع دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة، إلى احتمال قيام نظام عالمي جديد تمامًا، يمكن أن يتيح لهم الكثير من الخيارات الجديدة.
المصدر : ماركو كارنيلوس/ ميدل إيست آي