منظمة فكر للحوار والدفاع عن الحقوق والحريات

شريط إخباري

تحليلات

تفكيك إرث تنظيم داعش

تفكيك إرث تنظيم داعش

ليس من المبكّر الحديث عن المقتضيات العملية لمرحلة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية». وهذا التنظيم، إذ خسر قرابة أربعين بالمائة من الأراضي التي كان قد فتحها في سوريا والعراق، بما في ذلك مدن وبلدات ذات أهمية كبيرة، مثل تكريت والرمادي وتل أبيض وسنجار وتدمر، فإنه لم ينتقل بالكامل من الهجوم والمبادرة إلى الدفاع والتلقي، بل ما زال يعمد إلى مفاجآت ميدانية، غالبها تحت عنوان النكاية، ويحقق الغلبة في البعض منها. غير أنه، مع توالي انهزامه واندحاره، أصبح اليوم بالإمكان استشفاف مستقبل قريب ينتهي معه زعم الخلافة القائمة على ملكة الأرض. وعليه فإن النظر بالأعباء الثقيلة والعميقة والمتداخلة والتي تخلفها تجربة هذا التنظيم يصبح أمراً جديراً بالأولوية. ولا شك أن تقهقر تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإن لم يصل بعد إلى حد الانهيار، يعود جزئياً إلى الجهود المتواصلة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وإن كانت هذه الجهود في بعض الأحيان على قدر من التخبط. فضربات التحالف قد تمكنت بالفعل من قطع خطوط إمداد التنظيم وأعطبت ترتيباته لتحصيل الدخل، كما أنهكت بنيته القيادية. وقد تكون إحدى أهم الوسائل التي ساهمت في تقويض تنظيم «الدولة الإسلامية» المثابرة على عرقلة الأساليب الالتفافية التي لجأ إليها لولوج الشبكة العالمية، الإنترنت. فالتنظيم لم يتلاشَ في فضاء التواصل الاجتماعي على الشبكة، غير أن منافذه لترويج إصداراته قد ضاقت واضمحلّت. وآلته الإعلامية الدعائية قد تداعت في الأشهر القليلة الماضية من حيث الكمية والنوعية والتوزيع. وإذا كان لجهود التحالف أثر مشهود، فإن معظم ما تعرّض له تنظيم «الدولة الإسلامية» من انحسار يعود في الواقع إلى إضرار هذا التنظيم نفسه بمصالحه. فلأسباب سوف تبقى خافية إلى أن تظهر إلى العلن وثائق تكشف ما أبطنته القيادة، فإن «الدولة الإسلامية» كانت دون شك الخصم الأول لنفسها، إذ هي بادرت خصوماً منكفئين بمعارك مكلفة كانت في غنى عنها ولا طاقة لها لخوضها، واستَعْدت من وَقَع تحت سلطتها من المواطنين ببطشها وتشددها وتنكيلها بعمومهم، وخصّصت قدراً لا يستهان به من مواردها للشروع بأعمال وخطوات خارج سياق تثبيت سلطتها، من هدم المقامات والمساجد والمزارات والأديرة، وصولاً إلى اعتراض استهلاك التبغ والاتجار به. ومن الراجح أن يكون هذا التشتيت في القرار، بما أنتجه من هدر لطاقات التنظيم، عائداً إلى منهج عقائدي كبّل قدرة القيادة على تجنب عواقبه، ولكنه ربما قد يكون ناجماً عن اختراق للتنظيم من أجهزة استخبارية. وفي كلتا الحالتين، فإن الحصيلة هي أن تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه قد أفسد ما سعى إلى تحقيقه من إطار شمولي. والأدبيات المتعاطفة والمتماهية مع تنظيم «الدولة الإسلامية» أصبحت تستعرض إمكانية فقدان التنظيم لمعظم الأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، أو حتى خسارته لها بالكامل. غير أن هذه الأدبيات ترى أن سيطرة القوات الحكومية أو غيرها على ما كان في حوزة تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يتحقق وحسب بكلفة تتنفي معها إمكانية الاستنهاض الوطني. فالمثال المطروح في هذا الصدد هو تكريت والرمادي. إذ هنا وهنالك انهزم تنظيم «الدولة الإسلامية»، غير أن انتصار القوات الحكومية العراقية كان مرّاً لما رافقه من خسائر فادحة في العدد والعتاد، وما صاحبه من تدمير كامل للمدينتين، بما يرفع الأعباء المالية والاقتصادية لجهة إعادة الإعمار وإيواء السكان المهجرين. وقد سعى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى نتيجة مشابهة عند تسليمه بالهزيمة إزاء الفصائل الكردية المدعومة من التحالف في معركة عين العرب (كوباني)، في الشمال السوري. فانسحابه لم يتحقق إلا في أعقاب التدمير المفجع لأجزاء واسعة من المدينة. والكتابات المؤيدة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» تتوقع أن يطبّق نموذج التدمير قبل الانسحاب في كل من الموصل في العراق والرقة في سوريا. وبأسلوب لا يولي مصالح السكان أي اعتبار، فإن السلاح الذي يشهره تنظيم «الدولة الإسلامية» هو الإنهاك الاقتصادي لخصومه المتقدمين من خلال إلزامهم بكلفة إعادة الأعمار وأعباء احتواء أزمة نزوح ولجوء سوف تتجاوز الحدود الوطنية دون شك. هذا فيما يستمر التنظيم، وفق توقعات مؤيديه، بتواجد خفي في صفوف المواطنين للاستفادة من فرص مستقبلية للتحرك. فـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، وفق هذا التصور، لن يُهزم، وإن اضطر إلى التسليم بخسارة الأرض. ولا يمكن الاستخفاف بهذه الآراء وإسقاطها في خانة مواساة الذات. فالحركة الجهادية القطعية قد تبدلت وتحولت نتيجة ما تعرّضت له من ضغوط في العقود الماضية، فليس ما يدعو إلى اعتبار أن خسارة ملكة الأرض وانتهاء الخلافة بصيغة الدولة سوف تقضي على أخطر ظاهرة جهادية شهدها التوجه الإسلامي القطعي. ورغم فداحة ما يتوعد تنظيم «الدولة الإسلامية» من فرضه على خصومه في حال تمكنهم من تحقيق الانتصارات المرّة، بما يلازمها من دمار وتهجير، فإن الإرث الأكثر إثارة للقلق في مرحلة ما بعد اندحار تنظيم «الدولة الإسلامية» يتجسد في أربع ظواهر تشكل كل منها تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وترافق كل منها كلفة فائقة الارتفاع لمواجهتها. وأولى هذه الظواهر هي الانتشار الجهادي العالمي. فمن فرنسا إلى الصين، ومن روسيا إلى الفيليبين، تمكن تنظيم «الدولة الإسلامية» من استقطاب الآلاف وتدريبهم في صفوف مجاهديه. وخلافاً للرأي الاستدراكي الذي يريد أن يكون تنظيم «الدولة الإسلامية» أداة جذب وحصر للجهاديين العالميين، يهاجرون نحوه من ديارهم فيخففون خطر تواجدهم فيها، ويلتحقون بالتنظيم في أراضيه ليدحرون ويبادون مع تدميره، فإن تنظيم «الدولة الإسلامية» كان ولا يزال أداة استنباط لجيل جديد من الجهاديين، جرى استجماعهم من شباب قلّ منهم من سبق له أن عرف الجهاد أو مارسه في أنحاء المعمورة، ومن ثم وتأهيلهم بالتدريب المتقدم واختبارهم بالنار، فمن ينجو منهم يعود إلى مجتمعه الأصلي ليشكل خطراً داهماً يستمر وجوده لعقود قادمة. وكان الجهاد الأفغاني قد غاب أكثر من عقد كامل عن الصفحات الأولى للصحف العالمية، قبل أن يعود إلى الغرب بشكل اعتداءات الحادي عشر من أيلول. فاحتمال أن تتمخض تجربة تنظيم «الدولة الإسلامية» عن حدث مريع في مكان أو أكثر في المستقبل المنظور أمر لا بد للأجهزة الأمنية في مختلف الدول أن تبقى على يقظة بشأنه. أما الظاهرة الثانية، فهي محلية، دون أن تقلّ خطورة عن سابقتها العالمية، فهي تتعلق بجيل سوري منقطع عن قيم مجتمعه. ذلك أن تنظيم «الدولة الإسلامية» دأب على معاملة سوريا وكأنها أرض محتلة، وعلى التعاطي مع عموم السوريين على أنهم جماعة معادية له. وعلى الرغم من التبرؤ الصادر دورياً من مصادر التنظيم الرسمية، فإن تصرف جهادييه غالباً ما جاء على أن الأصل في أهل الشام هو الكفر، ومعاملتهم كانت بالتالي قاسية ومهينة. ومحاكم التنظيم أنزلت أقسى العقوبات، والعقوبة عادة ما تكون الإعدام، في سعيها إلى الترهيب وفرض منهجها القطعي. ولا شك أن جهد تنظيم «الدولة الإسلامية» في كسر الإرادة السورية لم يصل إلى هدفه. غير أن التنظيم قد حقق بعض مبتغاه في تطويقه لبعض الجيل الناشئ بمقومات تعبوية متواصلة، دفعته باتجاه القبول باعتيادية مشهد النحر والقتل والقطع، وهيأته للشروع بدوره بأفظع الممارسات الدموية، كما أن يمنح الفائز بمسابقة مدرسية قرآنية جائزة قتل أحد المرتدين، والردة في عرف تنظيم «الدولة الإسلامية» هي مخالفته بأي شكل من الأشكال. ولا شك أن تعنيف تنظيم «الدولة الإسلامية» للمواطنين السوريين لا ينحدر إلى مستوى الفتك والشذوذ والذي يثابر النظام السوري على ممارسته، رغم افتقاد الرأي العام العالمي لصحة المعايير في الإدانة والاستفظاع. بل أن ضياع الميزان في ردة الفعل والسكوت الغالب عالمياً إزاء جرائم النظام من العوامل المساعدة على استفحال شعائر الموت التي يمارسها تنظيم «الدولة الإسلامية». ومهما كانت الخلفية، فلا بد أن يبقى تطبيع الموت والاعتزاز بالقتل والتوق إليه من العوائق المنهكة في السعي المستقبلي لبناء جيل سوري جديد. أما الظاهرة الثالثة فهي في التفشي العالمي للمنظمات المحلية المنبثقة عن تنظيم «الدولة الإسلامية» والمقلّدة له إذ هو يتراجع في مهده في العراق وسوريا. ولـ تنظيم «الدولة الإسلامية» للتوّ أربع ولايات ناشطة وفعّالة خارج المركز، في سيناء وليبيا واليمن وأفغانستان. وأنجحها في تحقيق القصد الإرهابي هي ولاية سيناء، وذلك في استنزافها المتواصل للقوات المسلحة المصرية، وأيضاً وفق بعض التقارير في تحقيق اكتفاء مالي ذاتي لها. أما ليبيا، فيرى فيها البعض من أنصار تنظيم «الدولة الإسلامية» ملاذاً ومقرّاً جديداً في حال انهيار ولايات العراق والشام، إذ للتنظيم حضور وازن فيها، إلا أن قدرته على الاحتفاظ بهذا الحضور أو تعزيزه غير متحققة. أما في اليمن وأفغانستان، فإنه لا سيطرة دائمة للتنظيم على الأراضي والبلدات، بل توقعات وحسب بأن ترث «الدولة الإسلامية» ما هو بحوزة غيرها من التنظيمات الجهادية التي تتهاوى. وفيما يتعدى هذه الفروع، فإن تواجد تنظيم «الدولة الإسلامية» مضعضع. ففرعها في غربي أفريقيا، وهو ما كان يعرف سابقاً بـ «بوكو حرام» لم يستفد فعلياً من جهود إعادة تنظيمه، بل يستمر في التعرض لانتكاسات. ومزاعم إقامة الولايات أو أشكال التواجد الأخرى في القوقاز والصومال والفيليبين غير مقنعة، فيما الهجمات المتتالية في بنغلادش لم تتمكن من التطور إلى ما يتعدى اعتداءات الكرّ والفرّ. ولم يتحقق كذلك للتنظيم ما سعى إليه في إندونيسيا والجزائر وتونس. على أن هذه الجهود، إذ تأتي لتعتلي على ما سبقها من حركات جهادية، ليست إلا نتيجة عامين وحسب من العمل باتجاه تحقيق الحضور. فواقع الحال أن فروع تنظيم «الدولة الإسلامية» وولاياته وخلايا أتباعه في مختلف أرجاء العالم تشكل خطراً لا بد من معالجته من جوانب أمنية واستخباراتية متداخلة. وفي مقابل الخطر الملموس والقابل بالتالي للمعالجة الأمنية في الظواهر السابقة، فإن الظاهرة الرابعة أكثر دقة وأبعد أثراً، وهي عقيدة تعظيم الموت والتي استقاها التنظيم من الأدبيات القطعية ووضعها موضع التطبيق. وثمة سجال قائم اليوم في الغرب بين معادين للإسلام يعتبرون أن «الدولة الإسلامية» هي التجسيد الصحيح للدين الإسلامي، وبين الغالبية الساحقة من الناشطين المسلمين الذين يرفضون هذا التصوير التسطيحي لدينهم وثقافتهم. وفيما يتصاعد هذا السجال، فإن المنهجية القطعية تحقق بالفعل اختراقات مقلقة في العلم الشرعي والعقائد الإسلامية. وليست هذه الاختراقات نتيجة توافق تلقائي بين المضمون الديني الإسلامي والطروحات القطعية، بل هي في معظمها وليدة افتقاد العلم الشرعي الوسائل المناسبة لمجابهة الأدوات الحداثية التي يعتمدها دعاة القطعية. فمن هذه الأدوات: العلموية - التي تجعل من الدين تقريراً للحقائق الكونية كما الشرعية بدلاً من أن يكون دعوة لاكتشاف الأولى وفقه الأخرى، والتاريخوية - التي تجعل من التنزيل تتابعاً ينتسخ معه ما سبق آيات القتال بدلاً من اعتبار كامل التنزيل قدوة خارج التتابع وأن يقتصر النسخ على ما تبينه القرائن والأدلة، والشمولية - التي ترى الدين نظاماً تفصيلياً في المعاملات كما في العبادات لا نظاماً توقيفياً للأولى وتأطيرياً للأخرى. فالفضاء الفكري الإسلامي يتعرض اليوم لغزوات من توجهات تعتنق أدوات الحداثة انتقائياً لفرض الانصياع والانعزال ولرفض القناعات الفطرية والقيم العالمية. وواقع الحال هو أن معظم المؤسسات العلمية الإسلامية القائمة، بعد أن تقوقعت في التقليد، تجد نفسها غير مؤهلة للتعاطي مع هذا التحدي. أما تنظيم «الدولة الإسلامية» فهو يشكل التطبيق العملي لهذه المنهجية، وهي مستحدثة رغم ادعائها التمثل بالسلف أو حتى اتباع النبوة. والمفارقة الغريبة هي أن تنظيم «الدولة الإسلامية»، رغم تعظيمه للموت والقتل، قد أظهر قدراً من ضبط النفس في تطبيق القطعية، بل ثمة متشددون يطعنونه بالإرجاء والجهمية، ويطالبون بتكفير العموم وبنفون العصمة عن النفس البشرية، أي يدعون صراحة إلى قتل الجميع. فأفول هذا التنظيم لا يعني انحسار القطعيات، بل أن توالدها وتفاقم شدّتها من الأمور التي سوف تشكل خطراً مستمراً على استقرار المجتمعات ذات الغالبية الإسلامية أو دونها على حد سواء. ولو أن سوريا، التي نقلت مأساتها آفة تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى أبعاد عالمية، والعراق، الذي كان خرابه مهداً ومرتعاً لهذا التنظيم في نشأته، كانا قد شهدا أسلوباً آخر في التعاطي الدولي مع مصابهما، لكان العالم قد تجنّب معظم هذه الظواهر والتي تبدو اليوم معضلات مستعصية. وكذلك، فلو أن معالجة هذه الظواهر تنطلق اليوم بجدية، رغم ما يقتضيه الأمر من جهد وكلفة، فإنه بوسع العالم أن يختصر ما سوف يتطلبه التصدي لما سيترتب عن الإهمال من تفاقم وتعاظم للأذى. ولا شك أنه ثمة إجراءات من المتضررين الآنيين بالاتجاه المناسب، فعلى سبيل المثال، تنظر الدول الأوروپية في كيفية التعاطي مع جهادييها العائدين إلى بلادهم. غير أن سوريا النازفة قد تركت لمساعي تحقيق النفوذ التي تنشط بها كل من روسيا وإيران، رغم أن التورط الاستفزازي لهذه وتلك يضاعف الأذى الحالي واللاحق. والأخطر هو أنه لم يتبين بعد السبيل لاعتراض العقديات الدينية القطعية. ولا يبدو بالتالي أن معالجة مخلفات تنظيم «الدولة الإسلامية» تلقى العناية الجدية. وفيما أن إنزال الهزيمة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا هو أمر مطلوب، فإنه في غياب الإرادة الدولية للتصدي لمخلفات هذا التنظيم، فإن أي انتصار عليه في العراق وسوريا لن يكون إلا سراباً عابراً.

أترك تعليق

تبقى لديك ( ) حرف