رأي اليوم
تقوم وسائل الإنترنت والإعلام الفضائي بدورٍ كبير الآن في التواصل والحوار بين الأفراد والجماعات والشعوب، غير أنّ المنطقة العربية انتقلت من حالة تجاهل كلمة (الحوار) في عقودٍ ماضية إلى حالة استهلاكٍ عشوائيٍّ شديدٍ لها أفقدها معناها الحقيقي.
فالحديث يكثر الآن عن “حوار” مطلوب بين أطراف عديدة في المنطقة، وبين العرب ودول أخرى، دون إدراك أنّ المطلوب لحلّ الكثير من الأزمات القائمة حالياً هو التفاوض، وليس أسلوب الحوار.
فالحوار هو أسلوبٌ يحدث في التعامل بين الأفراد والجماعات من أجل التعرّف إلى الآخر وفهم هذا “الآخر” دون التوصّل معه بالضرورة إلى مرحلة التفاهم والتوافق.
الحوار هو تعبير عن الاعتراف بوجود “رأي آخر” وعن حقّ صاحبه بالمشاركة في الرأي، وإفساح المجال أمامه للتعبير عن فكره ومعتقده دون تشويه أو ضغط مانع لذلك.
فهل تحتاج الآن قضايا المنطقة المتنازَع عليها إلى هذا المفهوم عن أسلوب الحوار؟ وهل يجهل أصلاً كلّ طرفٍ معنيٍّ بهذه القضايا ماهيّة الرأي الآخر؟
إنّ الفرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار هو أسلوب مكاشفة ومصارحة وتعريف بما لدى طرفٍ ما، دون شرط التوصّل إلى اتفاق مع “الآخر”، وأيضاً دون مدًى زمني محدّد لهذا الحوار. أمّا التفاوض فهو ينطلق من معرفة مسبَقة بما يريده الآخر، لكن في إطار المحادثات التي تستهدف لاحقاً الحصول على مكاسب في جانب مقابل تنازلاتٍ في جانب آخر. أي أنّ كلّ طرفٍ مفاوض يكسب ويتنازل في الوقت نفسه، ثم يكون الفارق في مدى حسابات الربح والخسارة.
أمّا الحوار، فليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول به أو التوصّل إلى نتيجة مشتركة معه، بل ربّما يحدث تأثّر وتأثير متبادلان دون إقرار بذلك من الطرفين.
الحوار يقوم به أفراد ومؤسسات، وليست الحكومات والدول، التي هي معنيّة أصلاً بأسلوب المفاوضات القائم على موازين القوى والمصالح المادية، لا على بلاغة الأفكار والكلمات أو صدق المشاعر!.
إنّ أسلوب الحوار مهمّ جداً بين الشعوب عبر مؤسسات المجتمع المدني حيث لا يجوز هنا استخدام تعبير “التفاوض”. فالشعوب “تتحاور” بينما الحكومات “تتفاوض”. لكن كما “التفاوض” له أسس للنجاح، كذلك أسلوب “الحوار” يحتاج إلى إدراك عام مسبَق بالمواضيع، وإلى مراعاة لضوابط الحوار وقواعد نجاحه.
وهناك عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس في خنادق فكرية، فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل “الفكر الآخر”، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من فكرٍ ورؤى، فلا “الآخر” يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً، بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.
ومن دون شك، يرى صاحب كل فكر الصوابَ في فكره والخطأ في فكر غيره، لكنْ قليلٌ من المفكّرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. فهذا منطلقٌ مهمّ لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، ومن دونه، سيسير أي حوار في طريقٍ مسدود.
قد يكون مهمّاً في هذا المجال أيضاً التمييز بين “الحوار” و”الجدل”، كما هو مهمٌّ التمييز بين “المفاوضات” و”المباحثات”، حيث تكون المفاوضات بين أطراف متساوية في الحقوق، وإن لم تشترك في المساواة على صعيد ميزان القوى، بينما “المباحثات” هي التي تُمهّد عادة الطريق للمفاوضات ولا تحكمها ضوابط الحقوق والواجبات.
أمّا “الجدل”، فهو تعبيرٌ مظلوم في الثقافة العربية المعاصرة، إذ هو منهجٌ مطلوب ومهم إذا أحسن الأفراد أو الجماعات معرفة متى وكيف يُستخدم.
“الجدل” هو التقاء نقيضين وتفاعلهما في محتوى (أو موضوع) واحد، وبظروف معيّنة وزمان محدّد، وتخرج حصيلة هذا التفاعل نتيجة جديدة بديلة عن النقيضين. فهو منهج علمي من جهة، وهو أسلوب تعامل بين البشر من جهة أخرى.
“الجدل” في أحد أوجهه، هو “حوار” حول موضوع محدّد لكن بشرط التوصّل إلى نتيجة مشتركة جديدة في زمان محدّد أيضاً، ولا يكون (الجدل) ذا جدوى ما لم تتوفّر لدى كلّ الأطراف المعنيّة فيه الموافقة عليه والقدرة على أدائه.
ونجد هذا الخلط العجيب بين (الحوار) و(الجدل)، في عددٍ لا بأس فيه من البرامج الحوارية الإذاعية والتلفزيونية، حيث المتوجّب في هذه البرامج هو الحوارات الجادّة التي لا تشترط من طرف الموافقة على رأي الطرف الآخر، وتُبقي الاختلاف في حدود الآراء بحيث لا تتحوّل إلى خلافٍ بين الأشخاص.
إنّ البلاد العربية هي بحاجةٍ قصوى الآن لكلّ هذه المفاهيم معاً. هي بحاجة للحوار كأسلوب داخل العائلة الواحدة، كما أنّ العائلة بحاجة للجدل أحياناً لحسم بعض الأمور على أسس سليمة . الأوطان العربية بحاجة إلى حوار داخل شعوبها بين مؤسساتها المدنية وبين دعاة الفكر والدين والثقافة، لكن البلاد العربية، وعلى الأخصّ تلك التي تشهد أزمات لها امتدادات إقليمية ودولية، تحتاج أيضاً إلى اتّباع أسلوب “المفاوضات” مع الأطراف المعنيّة بالنزاعات، لا إلى أسلوب الحوار فقط.
إنّ “الجدل” مطلوب الآن داخل الأمَّة العربية حول موضوع الهويّة الوطنية وضرورة حسم ذلك لصالح وحدة الهويّة المشتركة بين العرب، بغضّ النظر عن اختلافاتهم الفكرية والسياسية، وعن خصوصياتهم الوطنية والدينية والإثنية. فالعرب يشتركون في ثقافة عربية واحدة لا تقوم على أصل عنصري ولا يختصّ بها أبناء دينٍ دون آخر..
و”الحوار” مطلوب الآن داخل كل بلد عربي حول مفهوم المواطنة وصيغ العيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد والحفاظ على التنوع الفكري والعَقَدي والسياسي في المجتمع الواحد ..
وحينما يتحقّق ذلك، تصبح البلاد العربية أكثر قدرةً على تحقيق المصالح الوطنية والعربية في مفاوضاتها مع القوى الإقليمية والدولية، فالمعيار في “ميزان القوى” حين “التفاوض” هو “كفَّة القويّ الموحَّد” لا “كفَّة الضعيف المنقسم”.
إنّ التوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار فكري متميّز. هذا الأمر ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصياتٍ قائمة داخل الأمَّة الواحدة. فالحلُّ لا يكون برفض المصطلح لمجرّد اختزان خلاصات عن تجارب محدّدة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا أنّ المصطلحات كلّها تعرّضت إلى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة: في الفكر الإسلامي والفكر القومي والفكر العلماني، كما على صعيد شعارات الحرّية والديمقراطية والوطنية.
هنا أهمّية دور “الآخر” في المجتمعات العربية وبين العرب أينما وجدوا، وهذا “الآخر” قد يكون على أساسٍ مذهبي أو طائفي أو إثني أو حتّى عقائدي وسياسي. لكن المعيار ليس بإقرار حقّ وجود “الآخر” فقط، بل في القدرة على التعامل السليم معه وبحقّه في دوره كشريك طبيعي في المجتمع المحلي أو في المواطنة، وبضمان صيانة حقوقه الكاملة كإنسانٍ متساوٍ مع الإنسان “الآخر” في كلّ الحقوق والواجبات.
إنّ الأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها. الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية والتنوع وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهمّ الحضارات الإنسانية، بينما يسود واقع الأمَّة العربية الآن حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب.
*مدير “مركز الحوار” في واشنطن