في اليمن، الوجع ليس حادثة… بل هوية، مثل رائحة البنّ حين تُشعل الصباح، أو كصدى المآذن حين يتردد على جبالٍ تعرف الله أكثر مما تعرف البشر.
هناك وجعٌ يخصّ الشعوب، ووجعٌ يخصّ الأوطان، ووجعٌ لا يعرفه إلا اليمني حين يرى التاريخ يمشي أمامه بكامل زينته، بينما الحاضر يقف حافيًا أمام باب الحاجة.
اليمن بلدٌ إذا ابتسم، يوجِع؛ وإذا بكى، يورث في القلب غصّةً كأنها منقوشة بسنابل سبأ ودموع الفقراء.
بلدٌ كلما فتحت صفحاته، عاد بك إلى زمنٍ كان اليمن فيه معبر القوافل، ومعلّم الملوك، ووارث الحكمة.
ومع كل صفحةٍ تُقلب، ترتفع قافيةٌ من الوجع كأن النص يكتب نفسه بنفسه، وكأن الماضي يعاتب الحاضر:
«كيف لابن الملوك أن يغدو مشردًا بين الأماني؟»
اليمني لا يعيش زمنًا واحدًا؛ يعيش أربعة أزمنة في اللحظة نفسها:
زمنًا يفتخر به، وزمنًا يحزنه، وزمنًا يُخذله، وزمنًا يَعِده — وكلها تتصارع في صدره كجيادٍ تجري بلا فارس.
ينظر إلى بلاده كما ينظر عاشقٌ إلى امرأةٍ كانت ملكة، ثم سرق العمر تاجها، ثم تركها وحيدة تتكئ على ذاكرةٍ أثقل من قدرتها على النهوض.
ولأن اليمن جميلة، فإن الألم يصبح أجمل حين يخصّها، وأكثر مرارة، وأكثر لذوعًا، وأكثر قدرة على تمزيق الروح وإعادة تركيبها.
أحيانًا يبدو اليمن مثل شيخٍ حكيمٍ يجلس قرب النار، يتكئ على عصاه ويبتسم بحزن، كأنه يعرف أن أبناءه سيضيعون في الطريق، لكنه لا يستطيع أن يصرخ.
وأحيانًا يبدو مثل طفلٍ يتيمٍ يُخبّئ ضحكته كي لا يقال إنه يبالغ في الفرح.
وأحيانًا يبدو مثل امرأةٍ تنتظر رجلًا لن يأتي، لكنها تظلّ تهذب شعرها كل صباح لأنها تؤمن أنه سيعود ذات يوم.
اليمن بلدٌ لا يموت بسهولة. يُهدم اليوم، فيُبنى غدًا. يُجَوَّع، فينبت خبزًا من الصبر. يُحاصَر، فيفتح نافذةً على السماء.
ولهذا تهاب الأمم اليمني؛ لأن لروحه قدرةً عجيبة على النجاة، كأنها شجرة سدرٍ تُقطع ثم تنبت في المكان نفسه مرارًا، بلا شكوى.
وحين ينظر اليمني إلى ماضيه، يشعر بأنه يقف أمام مرآةٍ لا تعكس صورته، بل تعكس صور أجداده الذين بنوا السدود، وأرسلوا القوافل، وكتبوا نقشًا لا يُمحى، وكانوا رؤساء في زمنٍ لا يعرف المذلة.
ثم يلتفت إلى يومه، فيرى الطرقات المكسورة، والبيوت المهدمة، والناس الذين يبيعون أحلامهم بثمنٍ بخس. فيشعر أن قلبه خزانةٌ قديمة، نصفها ذهب، ونصفها رماد، والباب لا يغلق.
والخذلان في اليمن له وجوه كثيرة:
وجه الجار الذي يبتسم وهو يطعن.
ووجه الصديق الذي يعد وهو ينسى.
ووجه الابن الذي يعود على هيئة غريب.
ووجه الغريب الذي يزعم أنه منقذ، فيصبح كارثة أخرى.
ومع ذلك… هناك شيءٌ غريب، شيءٌ لا يُفسَّر، يجعل اليمني كلما انكسر، تجمّع مبعثرًا، وكلما ضاع، وجد نفسه، وكلما خذلته الحياة، عاد إليها.
ربما لأن اليمن ليست أرضًا فحسب، بل حنينًا. وليست حدودًا، بل ذاكرة.
وليست وطنًا، بل قصيدة تُقرأ على جمر، وكل بيتٍ فيها يبدأ بحزن وينتهي بفخر.
قوافي الوجع ليست بكائية؛ إنها موسيقى الداخل.
إنك حين تقرأ اليمن، تسمع صوتًا يشبه رنين الذهب حين يُضرب بصخرة. صوتٌ فيه شجن، وفيه خشونة، وفيه جمالٌ لا يشبه جمال الآخرين.
ولهذا، حين يقرأ اليمني هذا النص، أو ينظر إلى أطلال بلاده، يشعر بشيءٍ يتحرك فيه:
فرحٌ يطلّ من تحت الحزن، وحزنٌ يستحي من الفرح، وانبهارٌ بتاريخٍ يرفض أن يموت، ومرارةٌ من حاضرٍ يعاند أن يعيش.
اليمن لا تحتاج من يبكي عليها، بل تحتاج من يراها كما هي: امرأةٌ جميلة ضاعت في زحام الخيانات، لكنها ما زالت تحتفظ بوشم الذهب تحت جلدها.
تحتاج من يفهم أن خلاصها يبدأ من الداخل، عندما يتصالح اليمني مع نفسه، ويواجه واقعه، ويتوقف عن انتظار منقذ يأتي من بعيد.
وفي النهاية، سيبقى اليمن وطنًا لا يُقرأ مرة واحدة، بل مراتٍ كثيرة، مثل كتابٍ مقدسٍ كلما فتحته، وجدت فيه سرًا جديدًا. وطنٌ كلما بكيت عليه، ضحك لك. وكلما قلت انتهى… عاد وابتدأ.
ذلك هو اليمن… وتلك هي قوافي وجعه.


28 نوفمبر, 2025
12667 


مساحة حرة
الأكثر قراءة
الأكثر تعليقاً




